“ويل لأمّة تثرثر أكثر ممّا تعمل”
بقلم العميد المتقاعد دانيال الحداد
في زمن الانحطاط كلّ شيء مباح، الصغير يتجرأ على الكبير، الثعلب يناور الأسد، ولا حرمة للقامات والمقامات في مواسم المحل…، تزدهر لغة الثرثرة، اقوالاً بلا أفعال، فتصبح حالات الترفيه والبطر والانحراف والكسل، جزءاً لا يتجزأ من الإنتاج القومي في نظر الكثيرين.
بالأمس القريب، طالعنا أحد تجار الكلام من على شاشة محطّة تلفزيونية، بكلام وقحٍ يندى له الجبين، ينطوي على حقدٍ دفين وكراهية ٍعمياء لعناصر الجيش والأجهزة الأمنية، خصوصاً للضباط العمداء منهم، فشاهدناه يزمّر ويصفّرويتأفّف عند سماعه كلمة عميد،يدور حول نفسه بمنتهى الغنج والدلع والتباهي، معتقداً نفسه أنه ذلك الألمعي الذي لم تلد امرأة مثله في التاريخ ، فهو الفصيح الخبير في علم الكلام، المقدام في التطاول على الكبار، المهضوم المحنّك، الأخّاذ الجذّاب في شدّ أنظار الجمهور الى مواهبه الجلل، كأنه عندليب عصره الذي تفوّق على العندليب الأسمر في ذلك الزمن الجميل. بعد ما شاهدت وسمعت، أحيل تاجر الكلام هذا ،على امرأة في أقاصي جرود عكار أو راشيا، لا تجيد القراءة والكتابة، لكنّها تتكلّم لمدّة أربع ساعات عن ظهر قلب،وهي تصنع الخبز الطازج على التنور. فأيهما يا ترى الأفضل للمجتمع؟ هذه التي يفوح من أثلام كفيها وعرق جبينها أريج الطبيعة والخير والبراءة، أو ذاك الثرثار الذي تفوح من فمه رائحة التعجرف والسموم الكريهة؟
لمرّة واحدة سأخبرك وأمثالك من هم الضباط العمداء
ـ هم في المقام الأول كانوا تلامذة الضباط، الذين اجتازوا اختبارات الدخول الى الكلية الحربية بجدارة وكفاءة من بين آلاف المرشحين من شباب الوطن، ثم تابعوا التدريب الشاق والخطِر والدراسة المكثفة لمدّة ثلاث سنوات متواصلة ، في الليل والنهار، في الحرّوالقر، ولو أحصينا ساعات التدريب والدراسة التي خضعوا لها لوجدناها تعادل مجموع ساعات ثلاث اجازات جامعية مدنية، وكم من هؤلاء التلامذة تعرض لاصابات جسدية بقيت ملازمة لهم مدى الحياة.
ـ هم ثانياً كانوا الضباط الأعوان ( ملازمين، ملازمين أول ونقباء )، رأس الحربة في القتال على الجبهات دفاعاً عن الوطن، جميعهم كانوا مشاريع شهداء، بعضهم سقط شهيداً أوجرح على أرض المعركة، وبعضهم الآخر هو اليوم بمنزلة الشهيد الحي، وآخرون لم تغب عن مخيلاتهم مشاهد هؤلاء الرفاق وهم يحملونهم على السواعد والأكف، حين كان بينهم وبين الموت شبر، فلم يترددوا ولم يتراجعوا ، ولم يتزعزع ايمانهم بالقضية قيد أنملة.
ـ هم ثالثاً كانوا الضباط القادة ( رواد، مقدمين وعقداء )، قادة الوحدات على الجبهات ، الذين أقرنوا ما اكتسبوه من معرفة وتجربة وخبرة بالشجاعة في الميدان ، وبملازمة رفاقهم الجنود على الخطوط الأمامية وبين الخنادق والمتاريس، واضعين نصب العيون إمّا النصر أو الشهادة .
ـ هم رابعاً أعمدة بنيان الجيش، الذين افنوا شبابهم في خدمة الوطن، ليستحقوا رتبهم بعد اثنتين وثلاثين سنة على الأقل من البذل والتضحية، فواظبوا على تطوير مؤسستهم ورفع مستوى أدائها، على الرغم من ضيق ذات اليد ، والانقلاب على حقوقهم ومكتسباتهم في سلسلة الرتب والرواتب.
ـ اخيراً وليس آخراً ، هم جزء من ضباط الجيش الذين رفعوا اسم لبنان عالياً عبر مسيرتهم المشرّفة، باستحقاقهم المراتب الأولى في معظم الدورات الدراسية التي خضعوا لها في أرقى الكليات والمعاهد الأجنبية.
رحم الله عظيمنا الكبير جبران خليل جبران القائل: ” ويل لأمّة تأكل ممّا لا تزرع، وتشرب ممّا لاتعصر، وتلبس ممّا لا تنسج……” ، وأضيف بكلّ تواضع: “ويل لأمّة تثرثر أكثر ممّا تعمل”.
قم بكتابة اول تعليق