ليا العاقوري: “هكذا استشهد صبحي في نهر البارد”

“لله رجال، إن هم أرادوا، أراد”

كانت الساعة الخامسة فجراً، ليلة سبت في أيار… رنّ هاتف صبحي العسكري، وطُلب اليه الالتحاق بثكنته في مهمة عاجلة. صبحي العاقوري المقدّم المغوار ترك زوجته وأولاده الأربعة ونفّذ ما طلب اليه، وفي اليوم التالي حين اتصلت به زوجته قال لها إن هناك ارهابيين قتلوا عسكريين في الشمال “ونحن ذاهبون لمحاربتهم هناك” وأقفل الخط.
تروي ليا أنها للوهلة الأولى لم تقلق الا قليلاً نظراً الى المهمات الصعبة التي ينفّذها فوج المغاوير دوماً، لكنّ القلق الحقيقي بدأ يفتك بقلبها حين بدأت الأخبار تَرِدُ عبر الشاشات الصغيرة عن خطورة معركة نهر البارد.
“كنت أطمئن عليه مرة في اليوم في نهاية النهار وكان دوماً يقول لي إنّ ما من شيء خطير والوضع مسيطر عليه”، تقول ليا، “لكنني مع عائلته وعائلتي كنا نعيش على أعصابنا وكنا كلما سقط شهيد نشعر أنّ مزيجاً من الحزن والألم والخوف يلفّ كياننا”.
“ليا، انا صبحي، لا تخافي، أصبت بكتفي وأنا ذاهب الى المستشفى فلاقيني ولا تقلقي لأنني بخير”، كانت المرة الأولى التي يصاب فيها المقدّم في المعركة وحين وصلت زوجته الى المستشفى بَرَدَ قلبها لأنها رأته بخير وعلمت أن إصابته ليست بالغة. وقد طلب الأطباء اليه أن يرتاح لمدّة في البيت، لكن صبحي لم يرتح الا ليوم واحد في بيته ليعاود الالتحاق برفاقه في الشمال من دون حتى أن يكون قد “فكّ القطب”. كان الواجب المقدّس يناديه، ولم يكن يسمع في داخله غير صوت هذا الواجب!
لم يكن صبحي يأتي الا نادراً جداً جداً الى المنزل أثناء تلك المعركة السوداء، لكنّه في 29 تموز عشية عيد مولد ابنته الكبرى اتصل بليا وقال لها “حضّري عيد جويس أنا آت الى المنزل غداً وسنحتفل جميعاً، علّنا نعود ونحتفل في ما بعد بالانتصار على الارهاب”. وتتوقف ليا عن الكلام، تعود تلك اللحظات اليها مع انها لم تنسها أبداً، ثم وبعد فترة من الصمت تتابع “كانت المرة الأخيرة التي يأتي فيها زوجي الى البيت، غادر بعد عيد ابنته ولم يعد ليكون هذا الأمر آخر ما قمنا به معاً”!
وبصعوبة كبيرة تتابع ليا عيش الأحداث:”في تلك الليلة حاولت الاتصال به مرات عدة لكن هاتفه كان مغلقاً. اتصلت برفيقه فاجابني أنّ صبحي قد يكون باجتماع، مؤكداً انه سيحاول في وقت لاحق التحدث معه. وفجأة وابل من الاتصالات انهال عليّ، أصدقاء كثر اتصلوا ليسألوني إن كنت قد تحدثت الى صبحي. هنا بدأت فعلاً أشعر بأن أمراً ما يحدث، الى أن اتصل أخي وقال لي إن ثمة من يقول أن صبحي مصاب. بعجلة عاودت الاتصال برفيقه فقال لي “ما دمت عرفتي سأخبرك الحقيقة إنّ صبحي مصاب وقد نقلته مروحية الى مستشفى رزق”.
“لم أقدر أن أبقى واقفة” تقول ليا، “فجلست وقلبي يقرع حتى يكاد ينفجر، حتى مفاتيح السيارة لم استطع حملها بيدي”.
… هذه المرة صبحي لم يتصل بها ليطمئنها الى أنّ إصابته طفيفة وغير خطرة، فكيف لا تخاف؟
“حين وصلنا الى المستشفى رأيته، يده اليمنى وبطنه كانا متضررين جدّاً، والحروق كانت تغطي يده اليسرى وعينه وكان فاقداً الوعي كليّاً. قال لنا الأطباء إن علينا نقله الى فرنسا لمعالجته لأن في لبنان الأمر صعب جدّاً”.
وحزمت ليا الحقائب… وتركت أطفالها الأربعة وسافرت مع صبحي علّها تجد في مكان ما على هذه الأرض بقعة أمل تعيد زوجها اليها والى أطفاله. ثمانية وعشرون يوماً بقيت وصبحي في فرنسا. في الأسابيع الثلاثة الأولى كان نائماً دوماً يخضع للعلاج.
“ما زلت أشعر بوقع ابتسامته حين أطليت من باب غرفته لما أخبرني الطبيب أنهم أيقظوه”! كانت الممرضات من حوله ولما دخلت نظر اليّ وابتسم من قلبه! لا يمكنني أن أنسى هذا المشهد ولا لحظة واحدة! وتتوقف مرة أخرى عن الكلام، تعود اليها ابتسامة صبحي، تلك الابتسامة اللطيفة، لترى أمام عينيها وجهه “الموجوع”.
“وصل أهله الى باريس في الأسبوع الرابع، ومع أنّ حاله وقتها كانت تتحسّن لكنّ الألم الذي كان يشعر به كان شديداً. كنت أحاول أن أخفف عن والدته التي كان الضيق يأكلها بالقول إنّ المهم أن صبحي لا يزال حولنا”.
…اللحظات الأَمَرّ تبدأ هنا! “كان لديّ متسع ساعتين من الوقت لأذهب الى المستشفى حين اتصلوا بي من هناك وطلبوا اليّ الحضور على الفور لأنّ ثمة أمراً خطيراً حصل. ولمّا وصلت دخلت فوراً عند الطبيب المسؤول الذي شرح لي بهدوء شديد أنّ صبحي خضع لعملية جراحية لتنظيف الجروح وكلّ شيء كان على ما يرام الى حين أراد الفريق الطبي نقله الى الغرفة فتوقف قلبه. “حاولنا إنعاشه لكننا لم نفلح، مع الأسف سيّدتي”. سألته:”ماذا تعني، هل توفي صبحي؟ فأجابني بالهدوء نفسه:”نعم سيّدتي”.
أولاده… الكبرى جويس كانت تبلغ من العمر سبعة أعوام، وجو خمسة، وكلوي ثلاثة، وكريستي سبعة أشهر… رحل والدهم… استُشهد والدهم… تاركاً لكلّ واحد فيهم ولزوجته صورة عن ضابط مقدام، كان يلتحق بثكنته من دون أن يُستدعى إن طرأ أمر عاجل، عن أب كان جيشه وعائلته حياته كلّها، عن زوج قال لزوجته:”إن رحلت يوماً ما يا ليا أعرف أنّكم ستكونون بأمان لأنّ الجيش لن يترككم وسيكون كما هو اليوم عائلتكم الكبيرة”.
رحيل صبحي لم يكن النهاية، لأنّ ليا أسّست جمعية تحمل اسمه وتحمل أيضاً شعار “لله رجال إن هم أرادوا، أراد” تُعنى بأطفال لبنان عامّة، وأبناء شهداء الجيش والعسكريين في الخدمة الفعلية خاصة، وتقوم بنشاطات جمّة لهم كالسفر الى الخارج وتنظيم المخيمات الترفيهية، إضافة الى إنشاء حدائق عامّة في أكثر من منطقة لبنانية، لتكون هذه المؤسسة الصغيرة التي أسستها زوجة مجروحة بحاجة الى من يقف الى جانبها، سنداً لكثير من العائلات والزوجات والأطفال، ويمكن للراغبين التعرف اليها أكثر الدخول على موقعها الالكتروني www.sobhiakoury.org
تقول ليا إنها قبل أن تعرف صبحي كانت تعيش حياة بعيدة نوعاً ما عن الجيش بما ان أحداً من عائلتها لم يكن بالسلك العسكري،”مع صبحي تعرّفت على الجيش وعلى تضحيات رجاله وكنت أغتبط كلما شاهدتهم يضحّون من دون أي مقابل من أجل وطنهم، وكنت أراهم رفاق سلاح يشبكون أيديهم ليواجهوا الخطر الذي يحدق بلبنان أيّاً كان نوعه مع أنهم من أديان مختلفة ومن بيئات لا تشبه بعضها”!
“أكثر من 170 شهيداً سقطوا في معركة نهر البارد، وحتى اليوم لا أشعر أن عدالة الأرض أنصفتهم” تؤكّد ليا، “نحن أوفياء لشهدائنا لكنّ هل العدالة الأرضية ستكون وفيّة”؟ “في كل مرة كنت أسمع فيها أن عنصراً من عناصر فتح الاسلام فرّ من السجن كنت أشعر أن صبحي ورفاقه يستشهدون مرّة جديدة”.
قِطَعاً من جسدها قدّمت المؤسسة العسكرية تضحيات للوطن، وستبقى تُقدّم، وتكتب على صدرها ملاحم البطولة، وفي معركة نهر البارد قطع صبحي ورفاقه رأس الارهاب، فمن يبقى لنا اليوم أملاً غير رجال المؤسسة العسكرية لانتشال لبنان من بؤرة تكاد تفتك بأمنه متسللة اليه، ومدعومة من البعض، هم المباركون من الشهداء رفاقهم ومدعومون من صلوات أحبائهم وقوّة السماء!

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply