مواقف القائد جاءت في كلمة ألقاها خلال زيارته متحف الرئيس الراحل فؤاد شهاب في جونية، تلبية لدعوة الرئيس العام للرهبانية المارونية الأباتي نعمة الله الهاشم، بحضور حشدٍ من المدعوين، بحيث اكتسب اللقاء بعداً وطنياً، ودلالاتٍ متعدّدة لا تقتصر على استذكار الانجازات التاريخية للرئيس شهاب في بناء معظم مؤسسات الدولة بدءاً من مؤسسة الجيش، والازدهارالاقتصادي المطّرد الذي كان قائماً خلال عهده ودور المؤسسة العسكرية بالتحديد في تحقيق هذا الازدهار، بل تتعدّى ذلك الى وقفة تأمل مع الذات في ظلّ الواقع الصعب الذي يمرّ به الوطن حالياً، وصرخة مدوّية في أكثر من اتجاه ازاء استهداف الجيش بشكل غيرمسبوق، ما جعل الصامت الأكبر يخرج عن صمته، متمسّكاً بمناقبيته المعهودة وقسمه النهائي في الدفاع عن الوطن.
قال القائد باختصار: “يؤسفنا ونحن في حضرة مؤسّس الجيش وباني عقيدته، ما يتعرّض له جيشنا اليوم من حملاتٍ تستهدف بنيته ومعنويات عسكرييه … ربّما غاب عن بال البعض عن قصد أو غير قصد أنّه على الرغم من الاستقرار الأمني الذي تنعم به البلاد، فالتحديات لا تزال كبيرة على الحدود وفي الداخل، ما يتطلّب جهوزية كاملة، وإلاّ فمن يتحمل مسؤولية كشف أمن الوطن؟
وأضاف: لم يترك للجيش خيار تحديد نفقاته، وباتت أرقام موازنته مباحة ومستباحة من قبل القاصي والداني وكأن المقصود إقناع الرأي العام بأن الجيش يتحمّل سبب المديونية العامة… إن توزيع مهام الجيش وتحديداً الأفضلية في التدابير العسكرية أصبح مادّة جدلية تتمّ مناقشتها على المنابر وفي الصالونات، علماً أنّ قيادة الجيش هي وحدها من يقرّر ذلك…. انّ ما أفرزته الموازنة حتى الآن من وقف التوظيف بصفة جنود أو تلامذة ضباط ووقف التسريح ينذر بانعكاسات سلبية على المؤسسة العسكرية، من ضرب هيكليتها وهرميتها إلى الخلل في توازن الترقيات، وهو سلوك متعمّد لتطويق المؤسسة العسكرية وضرب معنويات ضباطها وجنودها ومنعهم من الحصول على أبسط حقوقهم، مذكّراً بأنّ حقوق العسكريين ليست منّة من أحد، واستهداف معنوياتهم هو جريمة ليست بحقّهم فقط، انما بحق الوطن….”
هذا أبرز ما قاله القائد في كلمته، لكن ما بين يديه بالتفاصيل هو أكثر من ذلك بكثير:
– لم يسبق في تاريخ حكومات لبنان، أن أوكلت حكومة بعض الوزراء أو الموظفين المدنيين مهمّة تحديد موازنة الجيش واقتطاع أجزاءٍ من رواتب عسكرييه أو اتخاذ أي اجراء يتعلق بمصيره، كما يحصل اليوم، وبالتالي جعل مستقبل الجيش عرضة للنكايات الشخصية والأحقاد الدفينة، بل كانت هذه الحكومات في كلّ مرّة تسأل قيادة الجيش قبل إعداد مشروع الموازنة عن حاجات المؤسسة العسكرية ومتطلباتها ، واجراء أي تعديل ممكن عليها بالتوافق بين الجهتين، انطلاقاً من خصوصية هذه المؤسسة، ودورها الوجودي في حماية الدولة والدفاع عن الوطن.
– لماذا استفاقت الحكومة الآن على اقتطاع نسبة 3% من رواتب العسكريين لمصلحة الاستشفاء، وذلك بعد مرور 74 سنة على تأسيس الجيش، علماً أن مكتسب تأمين الاستشفاء لهم لم يعط في الأساس ترفاً أوهدية مجانيّة ، بل نتيجة طبيعية لتعرّضهم للجروح والإصابات والإعاقات خلال المعارك أو التدريبات، وعلماً أيضاً أن عائلات العسكريين تدفع ثمن طوابع لقاء المعاينات الطبية، والأهمّ من ذلك أنّ الجيش يوفر الطبابة لشريحة واسعة من المجتمع اللبناني، يبلغ عددها نحو 600 الف من العسكريين وأفراد عائلاتهم بتكلفة متواضعة جداّ، نتيجة ترشيد الانفاق وشفافية المناقصات واستثمارأقصى الجهود والطاقات، ما يرفع عن كاهل خزينة الدولة أعباءً هائلة؟
– كيف للحكومة أن تعمد الى فرض ضريبة الدخل على رواتب العسكريين المتقاعدين، وهي ضريبة مجحفة وغير قانونية، لأنّ المتقاعد يتقاضى راتبه من المحسومات التقاعدية التي سبق أن اقتطعت من راتبه طوال الخدمة. وللتذكير مرّة أخرى، هذه الرواتب هي الأقلّ بين سائر رواتب موظفي القطاع العام، بفعل سلسلة الرتب والرواتب العشوائية التي أعطت الجيش والأجهزة الأمنية زيادة قدرها 25%، بينما أعطت القطاعات الادارية والتعليمية والقضائية زيادة تراوحت بين 100% و 160%.
– كيف للحكومة أن تطلب إلغاء التدبير رقم 3 أو تعديله ، قبل أن تعيد النظر بسلسلة الرتب والرواتب الظالمة بحقّ العسكريين، لمساواتهم مع سائر موظفي القطاع العام، في قيمة الرواتب والدرجات والساعات الإضافية وتعويضات اللجان وتصحيح المسابقات ومراقبة الامتحانات، بالاضافة الى اعطائهم الدرجات الاستثنائية أسوة بسائر الموظفين. إذاً، المسالة ليست مسألة رقم التدبير،أو طبيعة عمل الوحدة العسكرية، المسألة تكمن في تحقيق المساواة، وبعدها يمكن إلغاء هذا التدبير من أساسه؟
– كيف للحكومة أن تشمل المؤسسة العسكرية بقرار وقف التوظيف في الدولة ووقف التسريح لمدة ثلاث سنوات، وهو قرار يضرب هيكلية الجيش، ويضعف عنصر الشباب والفتوة بين أفراده، والذي يشكل حاجة ماسّة لتنفيذ المهمّات القتالية الشاقّة والدقيقة؟
– ثم بأيّ منطق تشنّ حملة تقشف واسعة على الجيش، تقشف في التسليح والمحروقات والتجهيزات وصولاً الى التغذية وأكاليل الزهر…. هل المطلوب فضلاً عن استهداف المعنويات، تقييد نشاط الوحدات، بهدف تحقيق نصف الأمن، لأن الأمن الكامل في البلاد هو في نظر الحكومة ضربٌ من ضروب الترف والرفاهية والتبذير؟
– كذلك لماذا هذا الاستهداف الممنهج لحقوق العسكريين ومكتسباتهم التاريخية، سواء في تخفيض مخصّصات المحروقات أو قيمة منح التعليم ، ألا تعلم الحكومة أن الضابط يخصص ثلث راتبه لتصليح سيارته التي يتنقل بها بين الجنوب والشمال والساحل وجرود البقاع، وأنّ الراتب الذي يتقاضاه العسكري هو مصدر رزقه الوحيد بحكم الأنظمة العسكرية التي تمنعه من مزاولة أيّ عملٍ آخر ، وبالتالي هوغير قادر على تحمل أيّ أعباء إضافية؟
ويبقى التساؤل: كيف للقيادة أن تمضي في تحقيق أهدافها الوطنية الكبرى من دون مظلّة الدولة الراعية الحاضنة، وكيف تمضي في مسيرة تطوير المؤسسة وهي مزنّرة بجيش من الجنود الفقراء، وكيف لهؤلاء الجنود أن يتابعوا أداء واجباتهم كالمعتاد، وقد حرموا من سلاح المعنويات، واختلطت مهمّاتهم العسكرية بمتاعبهم الاجتماعية والانسانية.
إنّها صرخة قائد، صرخة كلّ جندي ومواطن مخلص، إنّها صرخة وطن…
قم بكتابة اول تعليق